رسالة القيم الفني
مع حلول ربيع العام 2020، رزح العالم بأسرِه تحتَ نيرِ حالة من الطوارئ رافقتها إجراءات من العزلة القسرية. وقتَها وجدَت غالبية الناس أنفسهم في مواجهة تحديات متعلقة بكيفية الوصول إلى الاكتفاء الذاتي عن طريق تفعيل ممارسات التعايش الفردي.
كما هو معلوم، فإن العزلة، بمفهومها المعقول، هي بلا شك إحدى متطلبات الإبداع لدى الفنان. ولكن شأنهم شأن باقي الناس، لم يكن لدى الفنانين إبان الجائحة من خيار سِواها. لقد أضحت المحترفات أشبه بالسجون بعدما كانت ملاذَهم فيما مضى. حيث اعتادوا الاختلاء فيها وإعادة ترجمة الواقع المُعاش بطرق أكثر وجدانية وَبنظرة أكثر عمقاً واختلافاً، حيث المخيلة تتأمل وتصوغ أعمالاً فنية مُلهمة.
أثناء تلك الفترة الحرجة، صادفني اقتباس للفنان الأميركي جون بالديساري: "من الصعب وضع لوحة فنية في صندوق البريد"، وَسرعان ما لمعت في ذهني فكرةٌ في ظل ما نمر به: "إذا كنا لا نستطيع التنقل والسفر، فإن الكتب تستطيع!"
خلال فترة الحجر، أدركت أن للكتب دوراً حيوياً قوياً أكبر من المُتوقع نظراً لانتشارها الواسع وخفّة نقلِها من مكان إلى آخر بسهولة.
في غضون أيام تواصلت هاتفياً مع أصدقائي وزملائي الفنانين ودعوتهم للانضمام إلى مشروع فني يحاكي أوضاعنا أثناء العزلة الإجبارية وتصوير ما عانيناه خلال تلك الفترة. أولينا جميعاً بالغ الاهتمام بهذه المهمة نظراً لطبيعتها الملحة. لم يكن الهدف مطلقاً من الكتب التي تم إعدادها وتخصيصها للفنانين توثيق تجاربهم وذكر أسمائهم فحسب، بل تمثل الهدف في التعبير عن قسوة بروتوكولات الحجر الصحي الصارمة بشكل إبداعي مما كان له أهمية بالغة نظراً للغموض الذي كان يكتنف كل شيء وقتَئذ.
جدير بالذكر أن عرض الخيارات على الفنانين – بُغية إنجاز دورهم في المشروع - كان مهماً لا سيما في الوقت الذي أصبح فيه الخيار رفاهية، حيث كان الجميع مخيّرين بين التدوين في كتاب مَثنِيٍّ على شكل أكورديون أو كتاب مخيط يدوياً من تصميم الفنان والمخرج رضا عابديني.
في غضون ثلاثة أسابيع، تم الانتهاء من تجهيز الكتب وتغليفها وتوسيمها لشحنها بالبريد من بيروت إلى 22 مدينة حول العالم، حيث وصل لكل فنان كُتيب صغير فارغ دون أن تُرسم لهم أية أطر أو حدود معينة، بل تُرك لهم المجال للإبداع وإنشاء كتبهم الفنية الخاصة.
لقد شكّلَ هذا المشروع بالنسبة للعديد من المشاركين تحدياً جديداً نظراً لأن قلّةً منهم فقط من استخدموا فكرة الكتاب كأداة إبداعية في السابق. وإن كان الفن محجوراً اليوم، إلا أن الإبداع يعرف طريقه والفن لن يتوقف عن الوجود والابتكار.
شرع الفنانون في العمل وبرز المشروع الإبداعي "مدن تحت الحجر الصحي: مشروع صندوق البريد"، الذي يتسم بزخم خاص باعتباره منارة ساطعة داخل نفق طويل مُظلم مزدحم بإجراءات الإغلاق، أو كاليد الودود الممتدة لكسر حاجز المسافات بين الجميع وفتح نافذة على عالم يجمعنا سويةً.
في المحصّلة، رحب 59 فناناً من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالدعوة للتعبير عن تلك الفترة في صورة كتاب فني، مما انطوى على جهد فريد لا مثيل له لتجسيد هذا الواقع الجديد.
شاركت في المشروع نخبة من الفنانين بطريقتهم التعبيرية الخاصة ولكن من جذور مشتركة وفقاً للخبرات التي طوّروها معاً. وفي هذا الصدد، فإنني أُعرب عن بالغ تقديري للفنانين المُنضمين لهذا المشروع وتفانيهم في العمل خلال تلك الفترة المحورية. كما أود التعبير عن الامتنان لانضمامي إلى باقة تضم أكبر عدد من الفنانين المشاركين في عمل فني ضخم كهذا.
الجدير بالذكر أن ردود أفعال الفنانين من كل حدب وصوب وقت الحجر الصحي هي ما شجّعني لتحمل تلك الأشهر العصيبة، بل وأكثر من ذلك، لقد نجح تفاعلهم في بث روح الأمل والحياة من جديد في داخلي.
عابد القادري